صحفي جزائري يروي القصة الكاملة لمجزرة اسطول الحرية
عندما رن هاتفي، أمس، على الساعة الخامسة صباحا، وانبعث منه صوت الزميلة والصديقة الصحفية كهينة حارش، زوجة الزميل عبد اللطيف بلقايم، وهي لا تبكي لأول مرة من ذهابه على متن أسطول الحرية، وتقول ''لقد اتصل عبد اللطيف إنه في الأردن''، عرفت أن الكابوس الذي مررنا به في الأيام الثلاثة الماضية قد انتهى، وأن هذا الرجل الذي عُرف بتحقيقاته القوية وملاحقته الجنونية للمعلومة منذ التحاقنا بـ ''الجزائر نيوز''، قد كُتب له عمر جديد مثل كل الناجين من مجزرة إسرائيل الدموية ضد أسطول الحرية لكسر الحصار على غزة•• هنا يروي لكم شهادته حول ما حدث••
حاورته: زهور شنوف
أولا، الحمد لله على عودتك سالما من المجزرة الإسرائيلية، كيف هو حال أعضاء الوفد الجزائري؟
شكرا، الحمد لله، جميع أفراد الوفد الجزائري بخير ودخلوا التراب الأردني بصحة جيدة، ما عدا شخص واحد يعاني من إصابة ليست خطيرة•
كنت من بين الصحفيين القلائل الموجودين على ظهر السفينة التركية ''مرمرا'' التضامنية، الذين نقلوا اللحظات الأخيرة قبل الهجوم الإسرائيلي على القافلة التضامنية لكسر الحصار عن سكان غزة، حدثنا عن تلك اللحظات الحرجة؟
فعلا، أرسلت معلومات حول أولى عمليات الاستكشاف التي قامت بها بوارج صغيرة تابعة للأسطول البحري الإسرائيلي على الباخرة التركية الأم ''مرمرا''، حيث حدّدَت من خلال تلك العملية مداخل ومخارج الباخرة، وتميز الوضع آنذاك بيننا وبين الجنود الإسرائيليين بتبادل نظرات الفضول، في هذا الوقت كنت متواجدا على ظهر السفينة، ثم عادت تلك البوارج الصغيرة لترسم خطتها للهجوم، وهو بالتحديد الوقت الذي نزلت فيه لكتابة آخر موضوع أرسلته، والذي جاء فيه ما رصدته حول عملية الاستكشاف، وتقدر المدة الفاصلة بين هذا الوضع وبداية الهجوم بحوالي 20 دقيقة، لأنني وأنا أكتب الموضوع تزايد صوت المروحيات وشعرت بها أكثر قربا، وتبين أن توقعاتي بذهاب البوارج لرسم خطتها في ذلك الوقت المستقطع، كما قلت في موضوعي حول اللحظات التي سبقت الهجوم، حيث كانت البحرية الإسرائيلية قد رسمت خطتها وعادت فعلا للهجوم على الباخرة، وهو ما تفاجأت به عندما أنهيت موضوعي ورجعت إلى سطح السفينة، فوجدت القيامة قد قامت•• عمليات إنزال للجنود بالعشرات، زوارق تحيط بنا من كل جهة يحاول الجنود الموجودين على متنها والحاملين لقضبان حديدية ضخمة إطلاق الذخيرة الحية والقنابل الصوتية•
أحد الناجين قال إنهم استعملوا القنابل المسيلة للدموع بكثافة؟
في الجهة التي كنت فيها لم أر ذلك، لكن الباخرة من ثلاثة طوابق، ربما يكونون قد استعملوها في المكان الذي كان فيه صاحب هذه الشهادة، لكن الجنود الإسرائيليون كانوا يرتدون الأقنعة الواقية من الغازات المسيلة للدموع•
تقول إسرائيل إن جنودها كانوا في حالة دفاع عن النفس، لأن ركاب الباخرة بادروا بأعمال العنف، أنت شاهد على ما حدث، ماذا تقول؟
الجنود لم يتعرضوا لأي استفزازات ولو لفظية، لأنهم بادروا بأعمال العنف مباشرة بعد عملية الإنزال وأثناء محاولة الاقتحام•• قبل كل هذا كانت منظمة الإغاثة التركية قد أصدرت تعليمات لكل الوفود بتشكيل دروع بشرية تمنع جنود إسرائيل من اقتحام السفينة، وأن يكون ذلك بطريقة سلمية وبدون أي احتكاك، لكن العدد الكبير للجنود حال دون صمود هذه الدروع البشرية للعزل في وجهها•• ورغم هذا لم يتمكنوا من السيطرة على السفينة إلا بعد ساعتين، ليتم الإعلان عن ذلك عبر المكبرات الصوتية، وحقيقة كان الأمر مفاجئا بالنسبة لنا لأنه أظهر مدى جبن وضعف الجيش الإسرائيلي الذي كان يحارب وكأنه يقاتل جيشا قويا في الوقت الذي كان النزال غير متكافئ لأنه كان ضد متضامنين في قافلة إنسانية وجميعهم عزل؟
كيف حاولت الدروع البشرية صد الهجوم الإسرائيلي؟
كان الوفد الجزائري في ميمنة السفينة ومقدمتها، واتخذ الوفد الأردني مكانا له في اليسار والمقدمة أيضا، وعلى يسار الوفد الجزائري تموضع الوفد الكويتي الذي كان خلفه الوفد البحريني•• وهكذا تم تقسيم الوفود الباقية على كامل السفينة، في حين كان الوفد التركي موزعا بكل الأماكن، ولذلك أخذ المواجهة الأولى•• ولما بدأت عملية الاقتحام وتغلب الإسرائيليون على كل الوفود كان الجزائريون آخر من سلم موقعهم بعد محاصرتهم من كل الجهات من قبل قناصي البحرية الإسرائيلية•• وفي خضم الهجوم شاهدنا بأعيننا ما لا يقل عن 60 شخصا يسقطون بين قتيل وجريح، وقد كان معظم الشهداء من الأتراك وفي القسم رقم اثنان في الجناح الأول، أين كنت أنا متواجدا مع بعض الصحفيين من مختلف دول العالم، كانت الحصيلة الأولية 5 شهداء بعدما تم رميهم برصاص كومندوس الجيش الإسرائيلي، وكان بينهم رئيس المركز الإعلامي وهو تركي الجنسية، وكنا نتعامل معه يوميا منذ صعودنا إلى السفينة، استشهد بطلقة نارية أصابته بين العينين ''موضع الجبهة''، وهذه الأمور ليس لها تفسير إلا أن الإسرائيليين كان بينهم قناصون وكانوا يبيتون نية القتل، وخططوا لوقوع الجريمة•
بالحديث عن عمليات القتل، تضاربت الأنباء حول عدد الشهداء؟
هناك شهداء فقدوا في مختلف طوابق الباخرة، العدد الأولي كان 9 أشخاص كلهم أتراك، ولكنه حسب الأنباء التي سمعناها لاحقا بعد اقتيادنا للسجن، أن الحصيلة ارتفعت إلى 16 شهيدا، وكانت الكثير من الاحتمالات واردة لأن الجيش الإسرائيلي كان يهرّب الجثث عبر المروحيات، ولم يكتف بخطف السفينة وإنما حاول التضليل على عدد الشهداء بأخذ الجثث بالمروحيات، لكن بعد خروجنا من السجن لم تتحدث وفود أخرى عن فقدها لأحد، وربما لذلك من المرجح أن يكون الشهداء هم الـ 9 أتراك الذين سقطوا في بداية الأمر•
بعد السيطرة على السفينة، هل تواصلت أعمال العنف ضد العزل؟
نعم كان الجنود يضربون كل من يظهر أمامهم، كانوا في حالة هستيرية من العنف، فقبل مباشرة الإنزال وصفت الصحافة اليهودية الأسطول الآتي نحو غزة بأنه أسطول عنيف، وربما هنا يظهر الإعداد الخفي والنية المبيتة لما حدث، فالجنود عندما لم يجدوا ولا قطعة سلاح واحدة راحوا يكسرون قضبان الحديد الموجودة في السفينة ويهشمون جدرانها ووضعوها جميعا وبدأوا في تصويرها بكاميراتهم على أنها أسلحة حاملي المساعدات إلى غزة•• وبعد السيطرة على السفينة تم اقتيادنا ''نساء ورجالا'' إلى مختلف طوابق الباخرة مكبلين بطريقة رهيبة، وتعرضنا لأنواع مختلفة من العنف، خاصة النفسي، فبعد وضعنا على سطح السفينة تحت أشعة الشمس الحارقة مكبلين، وكانت المروحية على بعد أمتار من رؤوسنا حتى خيل لنا أنها ستهبط فوق رؤوسنا وأزيرها يكاد يصم أذاننا وكلما تحركت يسقط أثاث السفينة فوقنا، فينطلق الجنود بالضحك، هذا إلى جانب منعنا من الذهاب حتى إلى المراحيض لقضاء حاجتنا البيولوجية طوال تلك الـ 12 ساعة التي بقيناها هناك•
هل تم الاعتداء عليكم بالضرب؟
نعم الكثير منا، أنا شخصيا تم الاعتداء عليّ جسديا من قبل الجنود لمجرد سؤالي عن المكان الذي علي اتخاذه في طوابق السفينة، فقام أحد الجنود بركلي على الظهر وبعدها انقضت علي مجموعة من الجنود وأخذوا يضربونني لاستدراجي واستفزازي لأقول أي شيء يتخذونه ذريعة للاستمرار في الاعتداء علي وعلى غيري•
هل دام وضعكم هذا على ظهر ''مرمرا'' طويلا؟
نعم، فلزيادة التعذيب النفسي اتخذت البوارج الإسرائيلية طريقا طويلا، لأنه كان من المفروض أن نصل إلى ميناء أسدود في أقل من 3 ساعات، لكن تم إعطاء تعليمات لقائد السفينة ألا يزيد سرعته عن 20 عقدة في الميل الواحد•
ما الذي حدث بعد ذلك؟
بعدما وصلنا إلى ميناء أسدود تم إبقاؤنا في السفينة طيلة يوم كامل، نُقلنا بعدها على الساعة الثالثة صباحا، إلى سجن النقب بصحراء بئر السبع، لكن قبل ذلك تم التحقيق معنا من قبل الموساد•
ما هي أهم الأسئلة التي طرحت عليكم أثناء هذا التحقيق؟
الأسئلة كانت على شاكلة ''ألا تعلم بأن مجيئك إلى إسرائيل بهذا الشكل غير شرعي؟'' وهذا في اعتقادي مغالطة كبيرة لأننا كنا في طريقنا إلى غزة وليس إلى إسرائيل وتم اختطافنا، ولما وجهت سؤالي إلى أحدهم ''هل إسرائيل هي غزة؟، أجاب: لا''• وربما كان هدفهم من هذه الأسئلة تضليل المستجوبين حتى يفتكوا منهم اعترافا بأنهم قادمون إلى إسرائيل، كما أنهم طرحوا أسئلة مثل ''من أي بلد أنت؟ هل تعرف أن الدخول إلى إسرائيل ممنوع؟ ما هي توجهاتك السياسية؟''•
وبعد هذا حاولوا إقناعنا، بل ذهبوا إلى حد إجبارنا على إمضاء وثيقة ترحيل كتب عليها في البداية (أعترف أنني قمت بعمل غير شرعي ضد دولة إسرائيل)•
هل وقعتم على هذه الوثيقة؟
كل الوفد الجزائري نساء ورجالا رفض التوقيع، والغريب أن جميعهم اتفقوا على نفس الرأي، ألا يوقعوا على وثيقة تعترف بإسرائيل، وفضل الجميع السجن على أن تحمل جوازات سفرهم دمغة إسرائيلية، والتقينا جميعا في سجن بئر السبع•
كيف كان الوضع هناك؟
هذا السجن لأول مرة تفتح أبوابه منذ تم تشييده، وفيه بدأنا حلقة جديدة من التهديدات والوعيد والإهانة، وذلك بعد أن وضعنا في زنزانات تشبه روائحها المراحيض القذرة، وتنتشر المياه عبر كل أرضياتها، أين كان من المفترض أن ننام، وعند دخولنا تم تسليمنا أكياس فيها وجبات أكلنا، التي كانت عبارة عن جزر وقليل من الخيار والفلفل بدون طهي وكأننا بهائم•
وفي كل مرة كانت ترتفع مكبرات الصوت لتشتيت أذهاننا وحرماننا من الراحة، التي لم نذقها طوال تلك الـ 48 ساعة، وبين الحين والآخر كان يتم الطرق على أبواب الزنزانات بقوة، ثم يصيح صوت من الخارج: كم عددكم؟ ومن أين جئتم؟ ويتكرر الأمر•
لقد عوملنا بمنتهى البشاعة، رغم أنهم قالوا في البداية ''أنتم في القانون الإسرائيلي لستم محبوسين، أنتم رعايا أجانب سيتم ترحيلكم وفق إجراءات الترحيل المعمول بها، وستكون أبواب الزنزانات التي توضعون بها مفتوحة••''، لكن كما جرت العادة، الصهاينة دائما يخلفون بوعودهم، حيث أغلقت الأبواب ولُقِّنا القانون الداخلي للسجن ومنعنا من طرح أي سؤال بخصوص الوضع القانوني لنا أو الترحيل، أو الحديث عن الاتصال بذوينا أو توكيل محامين عن المتضامنين الموقوفين•
كيف تم تبليغكم بمسألة الترحيل؟
أثناء تواجدنا بالسجن كانوا في كل مرة ينادون على أشخاص من جنسيات مختلفة، الظاهر أنهم ممن تملك دولهم علاقات مع إسرائيل، وكان أول المفرج عنهم النائبان المصريان، ثم بعض الأوروبيين، وبعدها بدأ الحديث عن الوساطة الأردنية وكان الوفد الأردني على رأس القائمة إلى جانب جزائريين، كويتيين وكذلك دول إسلامية من آسيا كماليزيا وأندونيسيا وغيرهم ممن رحلوا معنا إلى الأردن•
هل تسلمتم أغراضكم الشخصية التي جردتم منها على متن الباخرة التركية عند الترحيل؟
لا، إلى حد هذه الساعة، ونحن موجودون في الأردن الآن، لم نتسلم أيا من أغراضنا الشخصية التي تم تجريدنا منها، بما فيها الأموال والحواسيب••• وهناك من أخذت منهم جوازات السفر ولم يتم استرجاعها إلى آخر لحظة كما حدث مع رئيس الوفد الجزائري وثلاثة آخرين منه•
من ردة فعل أعضاء الوفود المختلفة بعد تجاوز لحظات الحزن عن من فقدوهم، هل شعرت أن أسطول الحرية حقق هدفه؟
هؤلاء الناس، أعتقد أنهم عرفوا وأحسوا أن أسطول الحرية حقق الهدف قبل أن يشق طريقه إلى البحر، لما نجحوا في حشد أكثر من 50 جنسية لكسر الحصار عن غزة، فالهدف لم يكن أبدا المواد الغذائية التي ربما لا تكفي أهل غزة لأكثر من يوم ونصف من الحياة، ولكن الهدف أن تبرز للعالم الوجه الصهيوني•
وأعتقد أن إسرائيل هي التي كتبت النجاح لأسطول الحرية باختطافها إياه من عرض المياه الدولية، فهي بذلك فشلت فشلين، الأول هو أنها أكدت للمرة الألف غباءها ودمويتها، والثاني عندما تعرّت عنجهيتها ونظرتها لنفسها على أنها فوق القانون بعدم مراعاتها للظرف الدولي والإنساني في هذه المسألة•
وفي كل هذا أعتقد أيضا أن سلوك إسرائيل منح لأسطول الحرية نجاحين، الأول هو أن الشهادة كُتبت على يده لرجال آمنوا بالقضايا الإنسانية العادلة وبحقوق الإنسان في أي نقطة من الأرض، والنجاح الثاني أنها رمت بمسألة كسر الحصار إلى الشارع العالمي، فخرج الملايين عبر مختلف عواصم العالم ينادون بهذا المطلب•
الزميل بلقايم، عشت تجربة إعلامية وإنسانية مختلفة، هل أنت على استعداد لتكرارها لصالح الشعوب المضطهدة؟
طبعا، هذا أكيد، كانت هذه التجربة ثرية للغاية على مختلف الأصعدة، اكتشفت، وأعتقد كل الإعلاميين الذين كانوا معي، من خلال ما حصل، أن هناك دائما للإعلامي همّ مختلف، همّ يصل في بعض الأوقات للدفاع عنه ليس فقط بالقلم، بل بالجسد والروح وبما يملك•• إنه همّ الناس•
عندما رن هاتفي، أمس، على الساعة الخامسة صباحا، وانبعث منه صوت الزميلة والصديقة الصحفية كهينة حارش، زوجة الزميل عبد اللطيف بلقايم، وهي لا تبكي لأول مرة من ذهابه على متن أسطول الحرية، وتقول ''لقد اتصل عبد اللطيف إنه في الأردن''، عرفت أن الكابوس الذي مررنا به في الأيام الثلاثة الماضية قد انتهى، وأن هذا الرجل الذي عُرف بتحقيقاته القوية وملاحقته الجنونية للمعلومة منذ التحاقنا بـ ''الجزائر نيوز''، قد كُتب له عمر جديد مثل كل الناجين من مجزرة إسرائيل الدموية ضد أسطول الحرية لكسر الحصار على غزة•• هنا يروي لكم شهادته حول ما حدث••
حاورته: زهور شنوف
أولا، الحمد لله على عودتك سالما من المجزرة الإسرائيلية، كيف هو حال أعضاء الوفد الجزائري؟
شكرا، الحمد لله، جميع أفراد الوفد الجزائري بخير ودخلوا التراب الأردني بصحة جيدة، ما عدا شخص واحد يعاني من إصابة ليست خطيرة•
كنت من بين الصحفيين القلائل الموجودين على ظهر السفينة التركية ''مرمرا'' التضامنية، الذين نقلوا اللحظات الأخيرة قبل الهجوم الإسرائيلي على القافلة التضامنية لكسر الحصار عن سكان غزة، حدثنا عن تلك اللحظات الحرجة؟
فعلا، أرسلت معلومات حول أولى عمليات الاستكشاف التي قامت بها بوارج صغيرة تابعة للأسطول البحري الإسرائيلي على الباخرة التركية الأم ''مرمرا''، حيث حدّدَت من خلال تلك العملية مداخل ومخارج الباخرة، وتميز الوضع آنذاك بيننا وبين الجنود الإسرائيليين بتبادل نظرات الفضول، في هذا الوقت كنت متواجدا على ظهر السفينة، ثم عادت تلك البوارج الصغيرة لترسم خطتها للهجوم، وهو بالتحديد الوقت الذي نزلت فيه لكتابة آخر موضوع أرسلته، والذي جاء فيه ما رصدته حول عملية الاستكشاف، وتقدر المدة الفاصلة بين هذا الوضع وبداية الهجوم بحوالي 20 دقيقة، لأنني وأنا أكتب الموضوع تزايد صوت المروحيات وشعرت بها أكثر قربا، وتبين أن توقعاتي بذهاب البوارج لرسم خطتها في ذلك الوقت المستقطع، كما قلت في موضوعي حول اللحظات التي سبقت الهجوم، حيث كانت البحرية الإسرائيلية قد رسمت خطتها وعادت فعلا للهجوم على الباخرة، وهو ما تفاجأت به عندما أنهيت موضوعي ورجعت إلى سطح السفينة، فوجدت القيامة قد قامت•• عمليات إنزال للجنود بالعشرات، زوارق تحيط بنا من كل جهة يحاول الجنود الموجودين على متنها والحاملين لقضبان حديدية ضخمة إطلاق الذخيرة الحية والقنابل الصوتية•
أحد الناجين قال إنهم استعملوا القنابل المسيلة للدموع بكثافة؟
في الجهة التي كنت فيها لم أر ذلك، لكن الباخرة من ثلاثة طوابق، ربما يكونون قد استعملوها في المكان الذي كان فيه صاحب هذه الشهادة، لكن الجنود الإسرائيليون كانوا يرتدون الأقنعة الواقية من الغازات المسيلة للدموع•
تقول إسرائيل إن جنودها كانوا في حالة دفاع عن النفس، لأن ركاب الباخرة بادروا بأعمال العنف، أنت شاهد على ما حدث، ماذا تقول؟
الجنود لم يتعرضوا لأي استفزازات ولو لفظية، لأنهم بادروا بأعمال العنف مباشرة بعد عملية الإنزال وأثناء محاولة الاقتحام•• قبل كل هذا كانت منظمة الإغاثة التركية قد أصدرت تعليمات لكل الوفود بتشكيل دروع بشرية تمنع جنود إسرائيل من اقتحام السفينة، وأن يكون ذلك بطريقة سلمية وبدون أي احتكاك، لكن العدد الكبير للجنود حال دون صمود هذه الدروع البشرية للعزل في وجهها•• ورغم هذا لم يتمكنوا من السيطرة على السفينة إلا بعد ساعتين، ليتم الإعلان عن ذلك عبر المكبرات الصوتية، وحقيقة كان الأمر مفاجئا بالنسبة لنا لأنه أظهر مدى جبن وضعف الجيش الإسرائيلي الذي كان يحارب وكأنه يقاتل جيشا قويا في الوقت الذي كان النزال غير متكافئ لأنه كان ضد متضامنين في قافلة إنسانية وجميعهم عزل؟
كيف حاولت الدروع البشرية صد الهجوم الإسرائيلي؟
كان الوفد الجزائري في ميمنة السفينة ومقدمتها، واتخذ الوفد الأردني مكانا له في اليسار والمقدمة أيضا، وعلى يسار الوفد الجزائري تموضع الوفد الكويتي الذي كان خلفه الوفد البحريني•• وهكذا تم تقسيم الوفود الباقية على كامل السفينة، في حين كان الوفد التركي موزعا بكل الأماكن، ولذلك أخذ المواجهة الأولى•• ولما بدأت عملية الاقتحام وتغلب الإسرائيليون على كل الوفود كان الجزائريون آخر من سلم موقعهم بعد محاصرتهم من كل الجهات من قبل قناصي البحرية الإسرائيلية•• وفي خضم الهجوم شاهدنا بأعيننا ما لا يقل عن 60 شخصا يسقطون بين قتيل وجريح، وقد كان معظم الشهداء من الأتراك وفي القسم رقم اثنان في الجناح الأول، أين كنت أنا متواجدا مع بعض الصحفيين من مختلف دول العالم، كانت الحصيلة الأولية 5 شهداء بعدما تم رميهم برصاص كومندوس الجيش الإسرائيلي، وكان بينهم رئيس المركز الإعلامي وهو تركي الجنسية، وكنا نتعامل معه يوميا منذ صعودنا إلى السفينة، استشهد بطلقة نارية أصابته بين العينين ''موضع الجبهة''، وهذه الأمور ليس لها تفسير إلا أن الإسرائيليين كان بينهم قناصون وكانوا يبيتون نية القتل، وخططوا لوقوع الجريمة•
بالحديث عن عمليات القتل، تضاربت الأنباء حول عدد الشهداء؟
هناك شهداء فقدوا في مختلف طوابق الباخرة، العدد الأولي كان 9 أشخاص كلهم أتراك، ولكنه حسب الأنباء التي سمعناها لاحقا بعد اقتيادنا للسجن، أن الحصيلة ارتفعت إلى 16 شهيدا، وكانت الكثير من الاحتمالات واردة لأن الجيش الإسرائيلي كان يهرّب الجثث عبر المروحيات، ولم يكتف بخطف السفينة وإنما حاول التضليل على عدد الشهداء بأخذ الجثث بالمروحيات، لكن بعد خروجنا من السجن لم تتحدث وفود أخرى عن فقدها لأحد، وربما لذلك من المرجح أن يكون الشهداء هم الـ 9 أتراك الذين سقطوا في بداية الأمر•
بعد السيطرة على السفينة، هل تواصلت أعمال العنف ضد العزل؟
نعم كان الجنود يضربون كل من يظهر أمامهم، كانوا في حالة هستيرية من العنف، فقبل مباشرة الإنزال وصفت الصحافة اليهودية الأسطول الآتي نحو غزة بأنه أسطول عنيف، وربما هنا يظهر الإعداد الخفي والنية المبيتة لما حدث، فالجنود عندما لم يجدوا ولا قطعة سلاح واحدة راحوا يكسرون قضبان الحديد الموجودة في السفينة ويهشمون جدرانها ووضعوها جميعا وبدأوا في تصويرها بكاميراتهم على أنها أسلحة حاملي المساعدات إلى غزة•• وبعد السيطرة على السفينة تم اقتيادنا ''نساء ورجالا'' إلى مختلف طوابق الباخرة مكبلين بطريقة رهيبة، وتعرضنا لأنواع مختلفة من العنف، خاصة النفسي، فبعد وضعنا على سطح السفينة تحت أشعة الشمس الحارقة مكبلين، وكانت المروحية على بعد أمتار من رؤوسنا حتى خيل لنا أنها ستهبط فوق رؤوسنا وأزيرها يكاد يصم أذاننا وكلما تحركت يسقط أثاث السفينة فوقنا، فينطلق الجنود بالضحك، هذا إلى جانب منعنا من الذهاب حتى إلى المراحيض لقضاء حاجتنا البيولوجية طوال تلك الـ 12 ساعة التي بقيناها هناك•
هل تم الاعتداء عليكم بالضرب؟
نعم الكثير منا، أنا شخصيا تم الاعتداء عليّ جسديا من قبل الجنود لمجرد سؤالي عن المكان الذي علي اتخاذه في طوابق السفينة، فقام أحد الجنود بركلي على الظهر وبعدها انقضت علي مجموعة من الجنود وأخذوا يضربونني لاستدراجي واستفزازي لأقول أي شيء يتخذونه ذريعة للاستمرار في الاعتداء علي وعلى غيري•
هل دام وضعكم هذا على ظهر ''مرمرا'' طويلا؟
نعم، فلزيادة التعذيب النفسي اتخذت البوارج الإسرائيلية طريقا طويلا، لأنه كان من المفروض أن نصل إلى ميناء أسدود في أقل من 3 ساعات، لكن تم إعطاء تعليمات لقائد السفينة ألا يزيد سرعته عن 20 عقدة في الميل الواحد•
ما الذي حدث بعد ذلك؟
بعدما وصلنا إلى ميناء أسدود تم إبقاؤنا في السفينة طيلة يوم كامل، نُقلنا بعدها على الساعة الثالثة صباحا، إلى سجن النقب بصحراء بئر السبع، لكن قبل ذلك تم التحقيق معنا من قبل الموساد•
ما هي أهم الأسئلة التي طرحت عليكم أثناء هذا التحقيق؟
الأسئلة كانت على شاكلة ''ألا تعلم بأن مجيئك إلى إسرائيل بهذا الشكل غير شرعي؟'' وهذا في اعتقادي مغالطة كبيرة لأننا كنا في طريقنا إلى غزة وليس إلى إسرائيل وتم اختطافنا، ولما وجهت سؤالي إلى أحدهم ''هل إسرائيل هي غزة؟، أجاب: لا''• وربما كان هدفهم من هذه الأسئلة تضليل المستجوبين حتى يفتكوا منهم اعترافا بأنهم قادمون إلى إسرائيل، كما أنهم طرحوا أسئلة مثل ''من أي بلد أنت؟ هل تعرف أن الدخول إلى إسرائيل ممنوع؟ ما هي توجهاتك السياسية؟''•
وبعد هذا حاولوا إقناعنا، بل ذهبوا إلى حد إجبارنا على إمضاء وثيقة ترحيل كتب عليها في البداية (أعترف أنني قمت بعمل غير شرعي ضد دولة إسرائيل)•
هل وقعتم على هذه الوثيقة؟
كل الوفد الجزائري نساء ورجالا رفض التوقيع، والغريب أن جميعهم اتفقوا على نفس الرأي، ألا يوقعوا على وثيقة تعترف بإسرائيل، وفضل الجميع السجن على أن تحمل جوازات سفرهم دمغة إسرائيلية، والتقينا جميعا في سجن بئر السبع•
كيف كان الوضع هناك؟
هذا السجن لأول مرة تفتح أبوابه منذ تم تشييده، وفيه بدأنا حلقة جديدة من التهديدات والوعيد والإهانة، وذلك بعد أن وضعنا في زنزانات تشبه روائحها المراحيض القذرة، وتنتشر المياه عبر كل أرضياتها، أين كان من المفترض أن ننام، وعند دخولنا تم تسليمنا أكياس فيها وجبات أكلنا، التي كانت عبارة عن جزر وقليل من الخيار والفلفل بدون طهي وكأننا بهائم•
وفي كل مرة كانت ترتفع مكبرات الصوت لتشتيت أذهاننا وحرماننا من الراحة، التي لم نذقها طوال تلك الـ 48 ساعة، وبين الحين والآخر كان يتم الطرق على أبواب الزنزانات بقوة، ثم يصيح صوت من الخارج: كم عددكم؟ ومن أين جئتم؟ ويتكرر الأمر•
لقد عوملنا بمنتهى البشاعة، رغم أنهم قالوا في البداية ''أنتم في القانون الإسرائيلي لستم محبوسين، أنتم رعايا أجانب سيتم ترحيلكم وفق إجراءات الترحيل المعمول بها، وستكون أبواب الزنزانات التي توضعون بها مفتوحة••''، لكن كما جرت العادة، الصهاينة دائما يخلفون بوعودهم، حيث أغلقت الأبواب ولُقِّنا القانون الداخلي للسجن ومنعنا من طرح أي سؤال بخصوص الوضع القانوني لنا أو الترحيل، أو الحديث عن الاتصال بذوينا أو توكيل محامين عن المتضامنين الموقوفين•
كيف تم تبليغكم بمسألة الترحيل؟
أثناء تواجدنا بالسجن كانوا في كل مرة ينادون على أشخاص من جنسيات مختلفة، الظاهر أنهم ممن تملك دولهم علاقات مع إسرائيل، وكان أول المفرج عنهم النائبان المصريان، ثم بعض الأوروبيين، وبعدها بدأ الحديث عن الوساطة الأردنية وكان الوفد الأردني على رأس القائمة إلى جانب جزائريين، كويتيين وكذلك دول إسلامية من آسيا كماليزيا وأندونيسيا وغيرهم ممن رحلوا معنا إلى الأردن•
هل تسلمتم أغراضكم الشخصية التي جردتم منها على متن الباخرة التركية عند الترحيل؟
لا، إلى حد هذه الساعة، ونحن موجودون في الأردن الآن، لم نتسلم أيا من أغراضنا الشخصية التي تم تجريدنا منها، بما فيها الأموال والحواسيب••• وهناك من أخذت منهم جوازات السفر ولم يتم استرجاعها إلى آخر لحظة كما حدث مع رئيس الوفد الجزائري وثلاثة آخرين منه•
من ردة فعل أعضاء الوفود المختلفة بعد تجاوز لحظات الحزن عن من فقدوهم، هل شعرت أن أسطول الحرية حقق هدفه؟
هؤلاء الناس، أعتقد أنهم عرفوا وأحسوا أن أسطول الحرية حقق الهدف قبل أن يشق طريقه إلى البحر، لما نجحوا في حشد أكثر من 50 جنسية لكسر الحصار عن غزة، فالهدف لم يكن أبدا المواد الغذائية التي ربما لا تكفي أهل غزة لأكثر من يوم ونصف من الحياة، ولكن الهدف أن تبرز للعالم الوجه الصهيوني•
وأعتقد أن إسرائيل هي التي كتبت النجاح لأسطول الحرية باختطافها إياه من عرض المياه الدولية، فهي بذلك فشلت فشلين، الأول هو أنها أكدت للمرة الألف غباءها ودمويتها، والثاني عندما تعرّت عنجهيتها ونظرتها لنفسها على أنها فوق القانون بعدم مراعاتها للظرف الدولي والإنساني في هذه المسألة•
وفي كل هذا أعتقد أيضا أن سلوك إسرائيل منح لأسطول الحرية نجاحين، الأول هو أن الشهادة كُتبت على يده لرجال آمنوا بالقضايا الإنسانية العادلة وبحقوق الإنسان في أي نقطة من الأرض، والنجاح الثاني أنها رمت بمسألة كسر الحصار إلى الشارع العالمي، فخرج الملايين عبر مختلف عواصم العالم ينادون بهذا المطلب•
الزميل بلقايم، عشت تجربة إعلامية وإنسانية مختلفة، هل أنت على استعداد لتكرارها لصالح الشعوب المضطهدة؟
طبعا، هذا أكيد، كانت هذه التجربة ثرية للغاية على مختلف الأصعدة، اكتشفت، وأعتقد كل الإعلاميين الذين كانوا معي، من خلال ما حصل، أن هناك دائما للإعلامي همّ مختلف، همّ يصل في بعض الأوقات للدفاع عنه ليس فقط بالقلم، بل بالجسد والروح وبما يملك•• إنه همّ الناس•