في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته محطاتكثيرة تستحق أن نقف معها، ونفهم أسرارها ومعانيها.
كان صلى الله عليه وسلم يعلمأصحابه ويربيهم ويتعامل معهم بطريقة تجعل كل واحدٍ منهم يشعر بأهميته ويعرف قيمتهفي الحياة، ويدرك مهمته التي لها خُلق ومن أجلها وُجد. ويبدو لي من خلال دراسةالسيرة الشريفة أن هناك أمرين يحسن أن نتذكرهما دائماً عند التعامل معالناس:
أحدهما: أن كل إنسان لديه من الطاقات والقدرات الشيء الكثير، رغم أنه قديبدو في ظاهر الأمر ضعيفاً أو محتاجاً، أو ربما عاجزاً. وقد يكون متقدماً في السن،واهن القوى، أو مريضاً دنفاً ليس به حركة إلى شيء.
وثانيهما: أن صاحب هذهالطاقات والقدرات إذا وجهها الوجهة الراشدة، وعرف كيف يسخرها استطاع أن يصنع منهاشيئاً له قيمة وأهمية.
أما بالنسبة للطاقات والقدرات التي عند كل إنسان، فيدلعلى ذلك أننا نجد أحياناً طفلاً مقعداً كسيحاً، وحين نتحدث معه نجد عنده من الهمةوالعزيمة ما لا يملكه الرجال الأصحاء الأسوياء، ولعل كل من رأى الأحداث الأخيرة فيغزة لمس ذلك من خلال المقابلات مع أطفالها الجرحى، فمنهم من فقد قدميه، ومنهم منفقد عينيه، لكن ذلك لم يزدهم إلا عزماً وهمةً عالية، وكان كل منهم يتحدث والبسمة لاتفارق وجهه رغم الألم والعذاب.
ومن هنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كانيتعامل مع الناس من حوله وفق هذه القاعدة، فإذا رأى أحداً يظهر منه اعتزاز أواعتداد بقوته وتفوقه على غيره، كأنه لا يحسب للآخرين حساباً قال له: "وهل تُنصرونأو تُرزقون إلا بضعفائكم؟" وكأنما يقول له: إياك أن تظن أنك وحدك تصنع النصر، أو أنغيرك ليس عنده خير.
وبالنسبة لتوجيه الطاقات والقدرات الوجهة الراشدة نجد الرسولصلى الله عليه وسلم إذا رأى شخصاً تميز في جانب من الجوانب، شجعه على ذلك، وأنعمعليه بلقب أو صفة تجعله يزداد تعمقاً وتخصصاً في ذلك الجانب، كقوله: أقرؤكم أُبي بنكعب، وأقضاكم عليّ، وأعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل...".
وقد كان الرسولصلى الله عليه وسلم يحرص على أن يربي في أصحابه هذه الروح، فكل شخص لديه قدرة علىأن يُقدم خدمة للإسلام والمسلمين، فالعالم يعلم غيره، والمقرئ يقرئ من حوله،والمجاهد يحمل سلاحه ويدافع عن المسلمين، وصاحب المال يبذل من ماله، والشاعر ينافحبشعره، وصاحب القلم بقلمه،.. وهكذا تُستثمَرُ طاقة كل شخص حسب ما يحسنه منعمل.
هذا حسان بن ثابت رضي الله عنه، لم يكن من أهل الحرب والطعان، ولا من فرسانالخيل، ولكنه كان صاحب قريحة شعرية وقّادة، إذا قال أحسن المقال، وهيَّج على الثباتفي النزال، وقد عرف له الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الموهبة فوجهها خير توجيه،حيث كان يضع لحسان منبراً في المسجد، ويأمره أن يقوم عليه فينشد في مدح الرسولوهجاء المشركين، وكان يقول له: "قل وروح القدس معك". ويقول: "إن الله يؤيد حسانبجبريل ما ينافح عن رسول الله".
وهذا ابن أم مكتوم كان رجلاً أعمى البصر قد عذرهالله، فلا يخرج إلى الجهاد، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوليه إمرة المدينةالمنورة، حين يخرج في الغزو، وفي هذا توجيه لطاقة ابن أم مكتوم في إدارة شؤونالمدينة، وتأكيد على قدرته وصلاحيته لهذه المهمة العظيمة، ورفعة لشأن هذا الرجلالذي كان ينظر إليه بعض الناس على أنه أعمى وعاجز لا يستطيع أن يفعلشيئاً.
ويذكر التاريخ أن عمرو بن معد يكرب الزبيدي شهد القادسية وهو ابن مئةوعشر سنين، وأنه قاتل في تلك المعركة العظيمة وأبلى فيها بلاءً حسناً.
فهذاالرجل المُسن حين وجد في نفسه القدرة على حمل السلاح ونصرة المسلمين لم يبالبشيخوخته وكبر سنه، ووجد في خروجه إلى الجهاد وطلبه الشهادة أمراً يستحق أن يبادرإليه، ويوجه إليه طاقته وقدرته.
والخلاصة أن المسلم دائماً إيجابي متعاون، يقدمما يستطيع، ولا يعلن عجزه أو إفلاسه، ولا يلجأ إلى المسكنة وقلة الحيلة، وحتى لوكان مسكيناً قليل الحيلة، لا يستطيع أن يفعل خيراً، فبإمكانه أن يترك الشر، ويكفالأذى، ويتوقى من إيصال الضرر إلى غيره من الناس، وفي ذلك صدقة وإحسان، وذلك أكثروأفضل من العدم والحرمان.
اتمنى ان تنال اعجابكم