البروفسور الجاسوس
وافق الكونغرس الأسبوع الماضي على تعيين الجنرال المتقاعد جيمس كلابر مديرا للاستخبارات الوطنية (دي إن آي)، وهي الوظيفة التي تنسق بين 16 وكالة استخبارات، منها: الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، والاستخبارات العسكرية (دي آي إيه)، ووكالة الأمن الوطني (إن إس إيه).
وكتبت صحيفة «وول ستريت جورنال» تقول: «كلابر يعين كبيرا للجواسيس»، في إشارة إلى أنه سيترأس كل شبكة التجسس. ووصفته صحيفة «لوس أنجليس تايمز» بأنه «مدير كل التجسس». لهذا، يبدو أن اسم الوظيفة لا يشرحها تماما. وذلك لأن «مدير الاستخبارات الوطنية» يبدو وكأنه مدير جهاز استخباراتي آخر. بينما هو، طبعا، مدير لكل الأجهزة.
وأشار مراقبون وصحافيون في واشنطن إلى أن اسم المكتب، عندما تأسس بعد هجوم 11 سبتمبر (أيلول) سنة 2001، كان متوقعا أن يكون «منسق الأجهزة الاستخباراتية» أو «قيصر الاستخبارات». لكن، بسبب منافسة قوية بين الأجهزة الاستخباراتية، فضل الرئيس السابق بوش الابن إعطاء المنصب اسما قويا، وذلك بالإشارة إلى «الوطنية»، أي أنه يجمعها كلها.
صار الجنرال كلابر خامس شخص يتولى المنصب منذ تأسيسه، ويوضح ذلك صعوبة التنسيق بين 16 وكالة استخبارات. في الحقيقة، يبدو أن العدد أكبر من ذلك كثيرا.
في الشهر الماضي، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» إحصائيات مفصلة عن وجود ألف ومائتي وكالة وجهاز استخباراتي، عسكري ومدني، حكومي وخاص (متعاقدين مع أجهزة استخبارات أميركية). وقالت إن العدد تضاعف بعد هجمات 11 سبتمبر، وإعلان الرئيس السابق بوش الابن «الحرب ضد الإرهاب». وأن غالبية الأجهزة الخاصة (المتعاقدة) تعمل في مجال الإرهاب.
قبل شهرين، كان الرئيس باراك أوباما اختار الجنرال كلابر. لكن أعلن أعضاء في الكونغرس من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، تحفظات. قال السيناتور كريستوفر بوند (جمهوري من ولاية ميسوري): «آسفا، أكد الرئيس أنه بتعيينه الجنرال كلابر في هذا المنصب الهام أن الرئيس يريد أن يسيطر البيت الأبيض على المنصب. نعم، خدم كلابر الوطن سنوات كثيرة. لكنه لا يملك أهمية سياسية بالنسبة للبيت الأبيض. لقد برهن الرئيس أوباما على أنه لا يريد تقوية منصب مدير الاستخبارات الوطنية، ولا يريد استقلال المنصب، ويريد استمرار السيطرة عليه ليعزل من يشاء ويعين من يشاء».
وقالت السيناتورة دايان فاينشتاين (ديمقراطية من ولاية كاليفورنيا) إنها قلقة لأن كلابر عسكري ولأن توليه المنصب سيجعل المنصب يميل نحو «البنتاغون». وقالت إن العسكريين يسيطرون على وكالات وأجهزة استخباراتية كثيرة، منها وكالة الأمن الوطني. لكن، قال أوباما، عندما أعلن اختيار كلابر وكان يقف إلى جانبه، إنه «واحد من أكثر الأميركيين خبرة واحتراما في مجال الاستخبارات». وأضاف: «يملك صفة أقدرها وسط صفات مستشاري، وهي الاستعداد ليقول لرؤسائه ما يجب أن نعلم، رغم أنه ليس ما نريد أن نسمع».
لكن صار واضحا أن خبرة وذكاء ودهاء كلابر تفوقت. خصوصا أنه قال إنه سيكون أحسن من سابقه، الأدميرال دينيس بلير. لكن، هل سيقدر على مواجهة ليون بانيتا، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) وصديق أوباما، ومن قادة الحزب الديمقراطي، ومن المدنيين الليبراليين الذين لا يبدو أنهم يرتاحون للعسكريين، استخباراتيين وغير استخباراتيين؟
قال صحافيون ومراقبون في واشنطن إن بانيتا، الذي كان عضوا في الكونغرس، استغل علاقته الشخصية والسياسية بأوباما لتقليل أهمية بلير، وهو محسوب على العسكريين في واشنطن، وإن الذين يرون بانيتا (وربما أيضا أوباما) فإنهم يجب أن يكتفوا بالعمل العسكري، ولا يتدخلوا في شؤون وكالات الاستخبارات المدنية. هذا بالإضافة إلى منافسة تاريخية بين «سي آي إيه» (المدنية) في جانب، و«دي آي إيه» (العسكرية) و«إن إس إيه» (شبه العسكرية، دائما يترأسها عسكري) في الجانب الآخر. والآن، ها هو واحد من العسكريين الاستخباراتيين، الجنرال كلابر، الذي كان مساعدا لوزير الدفاع للاستخبارات، يتولى منصب «دي إن آي»، مديرا لكل الأجهزة والوكالات الاستخباراتية. فماذا سيفعل بانيتا؟
ولد كلابر سنة 1939 (عمره 71 سنة) وهو أكبر شخص يتولى المنصب، بل وأكبر شخص يتولى المنصب السابق: مساعد وزير الدفاع للاستخبارات. وأكبر من رئيسه السابق، روبرت غيتس، وزير الدفاع، بأربع سنوات. وأكبر من الرئيس أوباما بعشرين سنة. لكن، منافسه الأول، ليون بانيتا، مدير «سي آي إيه» أكبر منه بسنة.
وإذا كان بانيتا عميد السياسيين في واشنطن، فإنه يمكن اعتبار كلابر عميد العسكريين فيها. ليس فقط بسبب عمره، ولكن، أيضا، لأنه أحب العمل العسكري منذ أن كان في المدرسة الثانوية. ويمكن القول إنه قضى أكثر من نصف قرن في العمل العسكري. في البداية وهو في المدرسة الثانوية، التحق باحتياطي قوات المارينز، وبدا يتدرب تدريبات عسكرية معها. ثم انتقل إلى احتياطي السلاح الجوي الذي شجعه على الاستمرار في دراساته الأكاديمية، وكفلها.
درس كلابر في جامعة ماريلاند، ونال البكالوريوس في العلوم السياسية سنة 1963 (وكان عمر أوباما سنتين). ثم انتقل إلى جامعة سانت ماري (ولاية تكساس) حيث نال ماجستير أيضا في العلوم السياسية. خلال تلك السنوات، كان يتلقى تدريبات في السلاح الجوي الأميركي. وبعد الماجستير، تدرب في الكلية العسكرية الجوية التابعة لقاعدة ماكسويل الجوية (ولاية ألاباما). وأيضا، تدرب في الكلية العسكرية في نورفولك (ولاية فرجينيا). ثم عاد أستاذا في قاعدة ماكسويل الجوية (ولاية ألاباما). ثم أستاذا في كلية الحرب الوطنية (إن دبليو سي) في قاعدة ماكنير، بالقرب من واشنطن العاصمة.
ونال نصيبه من الطيران العسكري القتالي، حيث اشترك في حرب فيتنام، وحارب في الدول المجاورة، مثل تايلاند وكمبوديا، في الجناح الاستخباراتي. ومنذ ذلك الوقت، ركز اهتماماته على الجوانب الاستخباراتية. وأيضا، درس في برامج أكاديمية في جامعة هارفارد.
ولأنه جمع بين العسكرية والأكاديمية والاستخباراتية، سماه البعض «بروفسور»، وسماه آخرون «سباي بروفسور» (أستاذ تجسس). ويبدو أنه كان كذلك خلال الثلاثين سنة الماضية. عمل مسؤولا عن الاستخبارات في ثلاث مناطق:
أولا: مع القوات الأميركية في كوريا الجنوبية. من بين ثلاثين ألف جندي، يوجد تسعة آلاف في السلاح الجوي. وفيها قيادة الأسطول الجوي السابع الذي يشرف على المحيط الهادي.
ثانيا: مع قيادة المحيط الهادي في هاواي. وهي أكبر قيادة عسكرية أميركية قتالية. وفيها القيادة الجوية للمحيط الهادي، أكبر قيادة جوية خارج الولايات المتحدة، وتقل قليلا في الأهمية عن القيادة الجوية الأميركية في أوروبا.
ثالثا: مع القيادة الجوية الاستراتيجية في قاعدة أوفوت (ولاية نبراسكا). وتجمع بين القيادة العليا للسلاح الجوي، وبين القيادة الاستراتيجية العليا. وتشرف هذه على الصواريخ عابرات القارات، وعلى الأسلحة النووية الاستراتيجية.
بعد ذلك، انتقل إلى «البنتاغون» حيث عمل مديرا للاستخبارات الجوية، ثم مديرا للاستخبارات العسكرية (دي آي إيه). ورغم أن حجم «دي آي إيه» (خمسة عشر ألف شخص) أصغر من حجم «سي آي إيه» (عشرين ألف شخص)، تعتبر المنافس الأول، خصوصا خلال التسع سنوات الماضية بعد هجوم 11 سبتمبر، وإعلان الحرب ضد الإرهاب، وغزو أفغانستان والعراق وانتشار القوات الأميركية ربما في كل العالم. صار التجسس العسكري لا يقل أهمية عن التجسس المدني، بل تفوق عليه لأن القوات الأميركية ذهبت إلى كل ركن في العالم تقريبا، وذهبت معها استخباراتها وجواسيسها، سواء كانوا أميركيين أو أجانب.
خلال سنواته في «دي آي إيه»، طورها الجنرال كلابر، خصوصا لأنه، بحكم وظيفته، كان كبير المستشارين لوزير الدفاع في الشؤون الاستخباراتية، وأيضا رئيس المجلس العسكري للاستخبارات. وهو «بروفسور» العلوم السياسية، ركز على الجوانب الدراسية والأكاديمية وتاريخ دول العالم. وضم إلى مسؤولياته جهازين، الأول: قسم الاستخبارات التابع للسلاح الطبي. والثاني: قسم الاستخبارات التابع لسلاح الصواريخ والفضاء. وكانا تابعين للجيش. وطور أقسام «دي آي إيه»: الاستخبارات البشرية، واستخبارات المعلومات، واستخبارات التحليلات.
وصادف وقت هجوم 11 سبتمبر، انتقال الجنرال كلابر من «دي آي إيه» إلى «إن جي إيه» (وكالة الاستخبارات الجيوفضائية الوطنية). وقضى فيها خمس سنوات. انتقل من قاعدة بولنغ (واشنطن العاصمة)، حيث رئاسة الأولى، إلى بثيسدا (ولاية ماريلاند) القريبة، حيث رئاسة الثانية.
ومرة أخرى، استفاد الجنرال كلابر من خليفته وتجاربه، وحول الوكالة من التقاط الصور الفضائية إلى التجسس الفضائي. قال إن لقراره سببين:
أولا: يشكل تركيز الوكالة على الصور الفضائية ازدواجية مع مكتب التصوير الوطني، الموجود في «البنتاغون».
ثانيا: دخلت هذا المجال شركات خاصة مثل «جيوغلوب» و«جيو آي».
والجنرال كلابر هو صاحب فكرة تجميع كل وحدات التجسس الفضائي في مكان واحد. وللموضوع صلة بهجوم 11 سبتمبر سنة 2001، والحرب ضد الإرهاب. وذلك لأن «البنتاغون» قرر تجميع فروعه ووحداته في عمارات مكتبية هنا وهناك (حيث ربما تتعرض لهجمات الإرهابيين) في قواعد عسكرية محصنة. وقرر تجميع كل فروع «إن جي إيه» في قاعدة «فورت بلفوار» (ولاية فرجينيا) بالقرب من واشنطن العاصمة. وهكذا بدأ مشروعا عملاقا لم ينته حتى الآن، ويكلف قرابة 3 مليارات دولار. بعده ستصبح «فورت بلفوار» أكبر مركز للتجسس الفضائي في العالم.
ويبدو أن الجنرال كلابر، في منصبه الجديد في الـ«دي إن آي» لن يتوقف عن التوسع وزيادة نفوذه في مجال الاستخبارات. لكن، ربما سيدخله هذا في مشكلات، لأنه في كل وظائفه السابقة كان مسؤولا عن إدارة معينة، بينما هنا لن يكون مسؤولا، بل منسقا بين إدارات كثيرة. ومؤخرا، في مقابلة مع صحيفة «لوس أنجليس تايمز» قال: «أعرف أنه منصب تنسيق أكثر منه منصب تنفيذ. لكن، ليس هذا عذرا لأن يكون منصبا ضعيفا». وأضاف: «أعرف حدودي، لكنني سأتحرك إلى الأمام حتى أصطدم بغيري».
وفي جلسة استجواب في الكونغرس، قال: «لا أريد أن أكون رمزا، ولا قبعة تذكارية. أريد أن أنفذ وأنجز». وعندما انتقده بعض أعضاء الكونغرس، وقالوا إن مثل هذه التصريحات ليست نذير خير، وإن الرجل «بدأ يحفر قبره بيديه»، كما قال واحد منهم، هب روبرت غيتس، وزير الدفاع، ومدير سابق لوكالة الاستخبارات المركزية، ورئيس كلابر عندما كان مساعدا لوزير الدفاع لشؤون الاستخبارات، ودافع عن الرجل.
وتوقع مراقبون وصحافيون في واشنطن أنه، رغم تأييد غيتس لمساعده، يظل منصب مدير الاستخبارات الوطنية منصبا معقدا. وذلك لأنه يشرف على 16 وكالة استخبارات مدنية وعسكرية. ورغم دفاع غيتس عن كلابر، قال غيتس: «لا يعمل أي من مديري هذه الوكالات تحت مدير الاستخبارات الوطنية. ولهذا، لن يريدوا قبول تعليمات وأوامر منه». وأضاف: «لا يحتاج المنصب إلى رئيس تنفيذي قوي يأمر الناس يمينيا ويسارا، بل يحتاج إلى مدير بناء ويقدر على العمل مع الآخرين».
وكان أعضاء في الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري أعلنوا تحفظات على اختياره. لكنهم، في النهاية، وافقوا. لهذا، يظهر السؤال: هل سيبقى كلابر في المنصب الجديد أكثر من سنتين (متوسط فترة كل مدير قبله)؟ وربما ستكون هذه آخر محطة «البروفسور الجاسوس» الذي صار «العجوز الجاسوس». بعدها لا بد أن يريد أن يرتاح، لأن عمره سيكون وصل منتصف السبعينات.
وافق الكونغرس الأسبوع الماضي على تعيين الجنرال المتقاعد جيمس كلابر مديرا للاستخبارات الوطنية (دي إن آي)، وهي الوظيفة التي تنسق بين 16 وكالة استخبارات، منها: الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، والاستخبارات العسكرية (دي آي إيه)، ووكالة الأمن الوطني (إن إس إيه).
وكتبت صحيفة «وول ستريت جورنال» تقول: «كلابر يعين كبيرا للجواسيس»، في إشارة إلى أنه سيترأس كل شبكة التجسس. ووصفته صحيفة «لوس أنجليس تايمز» بأنه «مدير كل التجسس». لهذا، يبدو أن اسم الوظيفة لا يشرحها تماما. وذلك لأن «مدير الاستخبارات الوطنية» يبدو وكأنه مدير جهاز استخباراتي آخر. بينما هو، طبعا، مدير لكل الأجهزة.
وأشار مراقبون وصحافيون في واشنطن إلى أن اسم المكتب، عندما تأسس بعد هجوم 11 سبتمبر (أيلول) سنة 2001، كان متوقعا أن يكون «منسق الأجهزة الاستخباراتية» أو «قيصر الاستخبارات». لكن، بسبب منافسة قوية بين الأجهزة الاستخباراتية، فضل الرئيس السابق بوش الابن إعطاء المنصب اسما قويا، وذلك بالإشارة إلى «الوطنية»، أي أنه يجمعها كلها.
صار الجنرال كلابر خامس شخص يتولى المنصب منذ تأسيسه، ويوضح ذلك صعوبة التنسيق بين 16 وكالة استخبارات. في الحقيقة، يبدو أن العدد أكبر من ذلك كثيرا.
في الشهر الماضي، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» إحصائيات مفصلة عن وجود ألف ومائتي وكالة وجهاز استخباراتي، عسكري ومدني، حكومي وخاص (متعاقدين مع أجهزة استخبارات أميركية). وقالت إن العدد تضاعف بعد هجمات 11 سبتمبر، وإعلان الرئيس السابق بوش الابن «الحرب ضد الإرهاب». وأن غالبية الأجهزة الخاصة (المتعاقدة) تعمل في مجال الإرهاب.
قبل شهرين، كان الرئيس باراك أوباما اختار الجنرال كلابر. لكن أعلن أعضاء في الكونغرس من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، تحفظات. قال السيناتور كريستوفر بوند (جمهوري من ولاية ميسوري): «آسفا، أكد الرئيس أنه بتعيينه الجنرال كلابر في هذا المنصب الهام أن الرئيس يريد أن يسيطر البيت الأبيض على المنصب. نعم، خدم كلابر الوطن سنوات كثيرة. لكنه لا يملك أهمية سياسية بالنسبة للبيت الأبيض. لقد برهن الرئيس أوباما على أنه لا يريد تقوية منصب مدير الاستخبارات الوطنية، ولا يريد استقلال المنصب، ويريد استمرار السيطرة عليه ليعزل من يشاء ويعين من يشاء».
وقالت السيناتورة دايان فاينشتاين (ديمقراطية من ولاية كاليفورنيا) إنها قلقة لأن كلابر عسكري ولأن توليه المنصب سيجعل المنصب يميل نحو «البنتاغون». وقالت إن العسكريين يسيطرون على وكالات وأجهزة استخباراتية كثيرة، منها وكالة الأمن الوطني. لكن، قال أوباما، عندما أعلن اختيار كلابر وكان يقف إلى جانبه، إنه «واحد من أكثر الأميركيين خبرة واحتراما في مجال الاستخبارات». وأضاف: «يملك صفة أقدرها وسط صفات مستشاري، وهي الاستعداد ليقول لرؤسائه ما يجب أن نعلم، رغم أنه ليس ما نريد أن نسمع».
لكن صار واضحا أن خبرة وذكاء ودهاء كلابر تفوقت. خصوصا أنه قال إنه سيكون أحسن من سابقه، الأدميرال دينيس بلير. لكن، هل سيقدر على مواجهة ليون بانيتا، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) وصديق أوباما، ومن قادة الحزب الديمقراطي، ومن المدنيين الليبراليين الذين لا يبدو أنهم يرتاحون للعسكريين، استخباراتيين وغير استخباراتيين؟
قال صحافيون ومراقبون في واشنطن إن بانيتا، الذي كان عضوا في الكونغرس، استغل علاقته الشخصية والسياسية بأوباما لتقليل أهمية بلير، وهو محسوب على العسكريين في واشنطن، وإن الذين يرون بانيتا (وربما أيضا أوباما) فإنهم يجب أن يكتفوا بالعمل العسكري، ولا يتدخلوا في شؤون وكالات الاستخبارات المدنية. هذا بالإضافة إلى منافسة تاريخية بين «سي آي إيه» (المدنية) في جانب، و«دي آي إيه» (العسكرية) و«إن إس إيه» (شبه العسكرية، دائما يترأسها عسكري) في الجانب الآخر. والآن، ها هو واحد من العسكريين الاستخباراتيين، الجنرال كلابر، الذي كان مساعدا لوزير الدفاع للاستخبارات، يتولى منصب «دي إن آي»، مديرا لكل الأجهزة والوكالات الاستخباراتية. فماذا سيفعل بانيتا؟
ولد كلابر سنة 1939 (عمره 71 سنة) وهو أكبر شخص يتولى المنصب، بل وأكبر شخص يتولى المنصب السابق: مساعد وزير الدفاع للاستخبارات. وأكبر من رئيسه السابق، روبرت غيتس، وزير الدفاع، بأربع سنوات. وأكبر من الرئيس أوباما بعشرين سنة. لكن، منافسه الأول، ليون بانيتا، مدير «سي آي إيه» أكبر منه بسنة.
وإذا كان بانيتا عميد السياسيين في واشنطن، فإنه يمكن اعتبار كلابر عميد العسكريين فيها. ليس فقط بسبب عمره، ولكن، أيضا، لأنه أحب العمل العسكري منذ أن كان في المدرسة الثانوية. ويمكن القول إنه قضى أكثر من نصف قرن في العمل العسكري. في البداية وهو في المدرسة الثانوية، التحق باحتياطي قوات المارينز، وبدا يتدرب تدريبات عسكرية معها. ثم انتقل إلى احتياطي السلاح الجوي الذي شجعه على الاستمرار في دراساته الأكاديمية، وكفلها.
درس كلابر في جامعة ماريلاند، ونال البكالوريوس في العلوم السياسية سنة 1963 (وكان عمر أوباما سنتين). ثم انتقل إلى جامعة سانت ماري (ولاية تكساس) حيث نال ماجستير أيضا في العلوم السياسية. خلال تلك السنوات، كان يتلقى تدريبات في السلاح الجوي الأميركي. وبعد الماجستير، تدرب في الكلية العسكرية الجوية التابعة لقاعدة ماكسويل الجوية (ولاية ألاباما). وأيضا، تدرب في الكلية العسكرية في نورفولك (ولاية فرجينيا). ثم عاد أستاذا في قاعدة ماكسويل الجوية (ولاية ألاباما). ثم أستاذا في كلية الحرب الوطنية (إن دبليو سي) في قاعدة ماكنير، بالقرب من واشنطن العاصمة.
ونال نصيبه من الطيران العسكري القتالي، حيث اشترك في حرب فيتنام، وحارب في الدول المجاورة، مثل تايلاند وكمبوديا، في الجناح الاستخباراتي. ومنذ ذلك الوقت، ركز اهتماماته على الجوانب الاستخباراتية. وأيضا، درس في برامج أكاديمية في جامعة هارفارد.
ولأنه جمع بين العسكرية والأكاديمية والاستخباراتية، سماه البعض «بروفسور»، وسماه آخرون «سباي بروفسور» (أستاذ تجسس). ويبدو أنه كان كذلك خلال الثلاثين سنة الماضية. عمل مسؤولا عن الاستخبارات في ثلاث مناطق:
أولا: مع القوات الأميركية في كوريا الجنوبية. من بين ثلاثين ألف جندي، يوجد تسعة آلاف في السلاح الجوي. وفيها قيادة الأسطول الجوي السابع الذي يشرف على المحيط الهادي.
ثانيا: مع قيادة المحيط الهادي في هاواي. وهي أكبر قيادة عسكرية أميركية قتالية. وفيها القيادة الجوية للمحيط الهادي، أكبر قيادة جوية خارج الولايات المتحدة، وتقل قليلا في الأهمية عن القيادة الجوية الأميركية في أوروبا.
ثالثا: مع القيادة الجوية الاستراتيجية في قاعدة أوفوت (ولاية نبراسكا). وتجمع بين القيادة العليا للسلاح الجوي، وبين القيادة الاستراتيجية العليا. وتشرف هذه على الصواريخ عابرات القارات، وعلى الأسلحة النووية الاستراتيجية.
بعد ذلك، انتقل إلى «البنتاغون» حيث عمل مديرا للاستخبارات الجوية، ثم مديرا للاستخبارات العسكرية (دي آي إيه). ورغم أن حجم «دي آي إيه» (خمسة عشر ألف شخص) أصغر من حجم «سي آي إيه» (عشرين ألف شخص)، تعتبر المنافس الأول، خصوصا خلال التسع سنوات الماضية بعد هجوم 11 سبتمبر، وإعلان الحرب ضد الإرهاب، وغزو أفغانستان والعراق وانتشار القوات الأميركية ربما في كل العالم. صار التجسس العسكري لا يقل أهمية عن التجسس المدني، بل تفوق عليه لأن القوات الأميركية ذهبت إلى كل ركن في العالم تقريبا، وذهبت معها استخباراتها وجواسيسها، سواء كانوا أميركيين أو أجانب.
خلال سنواته في «دي آي إيه»، طورها الجنرال كلابر، خصوصا لأنه، بحكم وظيفته، كان كبير المستشارين لوزير الدفاع في الشؤون الاستخباراتية، وأيضا رئيس المجلس العسكري للاستخبارات. وهو «بروفسور» العلوم السياسية، ركز على الجوانب الدراسية والأكاديمية وتاريخ دول العالم. وضم إلى مسؤولياته جهازين، الأول: قسم الاستخبارات التابع للسلاح الطبي. والثاني: قسم الاستخبارات التابع لسلاح الصواريخ والفضاء. وكانا تابعين للجيش. وطور أقسام «دي آي إيه»: الاستخبارات البشرية، واستخبارات المعلومات، واستخبارات التحليلات.
وصادف وقت هجوم 11 سبتمبر، انتقال الجنرال كلابر من «دي آي إيه» إلى «إن جي إيه» (وكالة الاستخبارات الجيوفضائية الوطنية). وقضى فيها خمس سنوات. انتقل من قاعدة بولنغ (واشنطن العاصمة)، حيث رئاسة الأولى، إلى بثيسدا (ولاية ماريلاند) القريبة، حيث رئاسة الثانية.
ومرة أخرى، استفاد الجنرال كلابر من خليفته وتجاربه، وحول الوكالة من التقاط الصور الفضائية إلى التجسس الفضائي. قال إن لقراره سببين:
أولا: يشكل تركيز الوكالة على الصور الفضائية ازدواجية مع مكتب التصوير الوطني، الموجود في «البنتاغون».
ثانيا: دخلت هذا المجال شركات خاصة مثل «جيوغلوب» و«جيو آي».
والجنرال كلابر هو صاحب فكرة تجميع كل وحدات التجسس الفضائي في مكان واحد. وللموضوع صلة بهجوم 11 سبتمبر سنة 2001، والحرب ضد الإرهاب. وذلك لأن «البنتاغون» قرر تجميع فروعه ووحداته في عمارات مكتبية هنا وهناك (حيث ربما تتعرض لهجمات الإرهابيين) في قواعد عسكرية محصنة. وقرر تجميع كل فروع «إن جي إيه» في قاعدة «فورت بلفوار» (ولاية فرجينيا) بالقرب من واشنطن العاصمة. وهكذا بدأ مشروعا عملاقا لم ينته حتى الآن، ويكلف قرابة 3 مليارات دولار. بعده ستصبح «فورت بلفوار» أكبر مركز للتجسس الفضائي في العالم.
ويبدو أن الجنرال كلابر، في منصبه الجديد في الـ«دي إن آي» لن يتوقف عن التوسع وزيادة نفوذه في مجال الاستخبارات. لكن، ربما سيدخله هذا في مشكلات، لأنه في كل وظائفه السابقة كان مسؤولا عن إدارة معينة، بينما هنا لن يكون مسؤولا، بل منسقا بين إدارات كثيرة. ومؤخرا، في مقابلة مع صحيفة «لوس أنجليس تايمز» قال: «أعرف أنه منصب تنسيق أكثر منه منصب تنفيذ. لكن، ليس هذا عذرا لأن يكون منصبا ضعيفا». وأضاف: «أعرف حدودي، لكنني سأتحرك إلى الأمام حتى أصطدم بغيري».
وفي جلسة استجواب في الكونغرس، قال: «لا أريد أن أكون رمزا، ولا قبعة تذكارية. أريد أن أنفذ وأنجز». وعندما انتقده بعض أعضاء الكونغرس، وقالوا إن مثل هذه التصريحات ليست نذير خير، وإن الرجل «بدأ يحفر قبره بيديه»، كما قال واحد منهم، هب روبرت غيتس، وزير الدفاع، ومدير سابق لوكالة الاستخبارات المركزية، ورئيس كلابر عندما كان مساعدا لوزير الدفاع لشؤون الاستخبارات، ودافع عن الرجل.
وتوقع مراقبون وصحافيون في واشنطن أنه، رغم تأييد غيتس لمساعده، يظل منصب مدير الاستخبارات الوطنية منصبا معقدا. وذلك لأنه يشرف على 16 وكالة استخبارات مدنية وعسكرية. ورغم دفاع غيتس عن كلابر، قال غيتس: «لا يعمل أي من مديري هذه الوكالات تحت مدير الاستخبارات الوطنية. ولهذا، لن يريدوا قبول تعليمات وأوامر منه». وأضاف: «لا يحتاج المنصب إلى رئيس تنفيذي قوي يأمر الناس يمينيا ويسارا، بل يحتاج إلى مدير بناء ويقدر على العمل مع الآخرين».
وكان أعضاء في الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري أعلنوا تحفظات على اختياره. لكنهم، في النهاية، وافقوا. لهذا، يظهر السؤال: هل سيبقى كلابر في المنصب الجديد أكثر من سنتين (متوسط فترة كل مدير قبله)؟ وربما ستكون هذه آخر محطة «البروفسور الجاسوس» الذي صار «العجوز الجاسوس». بعدها لا بد أن يريد أن يرتاح، لأن عمره سيكون وصل منتصف السبعينات.