دخلت المحكمة وعمري لا يتجاوز الخمس سنوات.. وقفت أمي تتكلم وتتشنج بقوة٬ ثم تتوقف كي تمسح دموعها.. وأبي يصرخ من بعيد و"محمد ابو جمعة" واقف في القفص. يرفع يديه مشيرا للسماء.. او سقف المحكمة٬ مرددا "ربنا احكم الحاكمين".. وكان علي ان ادلی بالشهادة امام القاضي.. الذي بدا لي مرتفعا جدا ومعلقا في الهواء فوق رأسي.. وعندما سألني حكيت له كل شيء٬ كما وقع وبالتفصيل الشديد.. كيف كنت امشي مع أمي في السوق٬ امام دكان عبد القادر حسونة الحلاق٬ وكيف هجم علي "محمد ابو جمعة" ليخطفني ويضعني فوق كتفه حتی اوصلني للسيارة التي كان ينتظرني فيها أبي.. وكيف وضعوني في عشة كانت تحرسها امرأة بدوية عجوز، وكيف كنت أجوع٬ وأخاف وانا وحدي.. وانادي امي.. وبكی الناس حولي وصرخ "ابوجمعة" "كد .. والله العظيم كداب"..
فنهره القاضي٬ حتی اكملت حكايتي..
ولست اعرف بماذا حكم القاضي٬ اذكر فقط انه قال كلاما كثيرا. وان "ابو جمعة" دخل السجن هكذا قالت خالتي بشماته ــ بينما والدي في حالة غضب تقترب من الهياج.
هكذا تعرفت مبكرا علی القانون ورجاله وتعودت علی احترامه٬ فقد كان خال امي "سليم ابوعمر" قاضيا لا يذكر اسمه في دارنا إلا مصحوبا بالتوقير العظيم٬ وبلهجة مفعمة بالفخر٬ أما جدتي لأمي٬ فكانت تحثني علی الدرس٬ حتی تكبر وتصبح قاضيا٬ مثل خالك سليم.
ورغم ذلك كبرت وفي رأسي طنين٬ حول القانون وأهله وما هي القوة التي تمنح رجلا عجوزا القدرة علی سجن الناس٬ واحيانا اعدامهم٬ فهو ليس بالفتوة الذي يحمل نبوتا ولا ابن الليل٬ الذي يحمل بندقية ميزر او مقروطة!! ثم ما هو القانون نفسه؟؟ من اين جاء؟ ومن الذي وضعه في المحكمة.
اول من تطوع لشرح هذه المعضلة لي٬ كان الشيخ مصطفی عبية وهو محام شرعي٬ ورئيس شعبة الاخوان في بلدنا٬ والرجل الذي رفع مئة قضية علی ابي لصالح امي. قال لنا:
ــ "كل القوانين التي في المحاكم٬ قوانين وضعية٬ أي وضعها البشر٬ ولذلك فهي باطلة٬ لأن البشر يخطئون ويصيبون ولذلك تأتي قوانينهم تحمل عجزهم وقصورهم.. كما ان القانون في محاكمنا٬ هو قانون مستورد من فرنسا٬ ولذا فهو قانون كافر٬ فرضه علينا الكفار٬ والذين يعملون به أولياء للكفار٬ اما القانون الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو كتاب الله الذي لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا احصاها٬ فهو فوق كل القوانين٬ بل هو قانون القوانين وتذكرت انني احفظ كتاب الله٬ أي انني هكذا محيط بكل القوانين.. وبحثت في المصحف عن عقوبة "لمحمد ابو جمعة٬" الذي خطفني ليعذب أمي٬ ارضاءً لابي٬ فلم اجد".
وسألت عم الشيخ مصطفی٬ عن عقوبة قرآنية لمحمد ابو جمعة٬ وكان يعرف حكايته معي٬ فقال الرجل دون ان يرف له جفن:
ــ "يعاقب عقوبة المفسدين في الارض الذين تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.. فهو مفسد في الارض٬ ياسي محفوظ٬ وابوك مفسد في الارض ياسي محفوظ٬ جعلك الله من المصلحين في الارض ياسي محفوظ".
وتطلعت حولي فوجدت ان المفسدين في الارض هم الذين يحكمونها واننا نعيش فيها مكبلين بالقوانين منها ما نزل من السماء ومنها ما اخترعه الكورسيكي نابليون٬ او جمعه الروماني "شيشرون" بعضها نعرفه٬ واكثرها لا نعرفه٬ ولكن جهلنا بالقانون لا يعفينا من المسؤولية.. وبدأت اتوجس شرا من القوانين المجهولة٬ التي قد اخرج عليها دون علمي٬ فقد يكون المشي ممنوعا في ساعات معينة٬ او اماكن معينة وقد يكون الكلام محظورا في موضوعات بالذات والتفكير ممنوعا في قضايا بعينها من يدري؟ فالشيوعية مبدا هدام٬ والتطرف الديني ارهاب.. والحكومة تحاربها٬ كما ان الاخوان يحرمون علينا الاتصال بالشيوعيين وقراءة كتبهم٬ والتأثر بأفكارهم٬ والشيوعيون لهم نفس الموقف لاشك٬ وكل جماعة لها قوانينها ومحرماتها٬ حتی تخيلت انني محبوس في قفص من القوانين٬ وانني اخاف القفز فوق قضبانه٬ لأن ذلك سيكون بمثابة قفز الی قاع بركان ثائر فالخروج علی القانون هو الطريق السريع لدخول السجن فأنا مخير٬ بين البقاء قابعا خلف قضبان القانون او قضبان السجن.
وليس في هذا العالم كله مكان بلا قضبان.. مكان بلا قوانين٬ فهناك قوانين الاخلاق وقوانين الايجارات٬ والقانون الجنائي والقانون المدني والقانون الدولي.. حتی اذا هربنا من الكرة الارضية والتي تحكمنا علينا قوانين الجاذبية والحركة فاننا في الفضاء الكوني٬ سنجد قوانين كونية تلاحقنا كقوانين النسبية والعلاقة بين الضوء والطاقة والمكان والزمان.
وكلها قوانين بعضها بسيط مفهوم وقاطع كالوصايا العشر.. وبعضها معقد كقوانين "إينشتاين" ورغم كل هذه القوانين مازال البشر يسنون المزيد من القوانين فالحياة تتغير والعلاقات تتغير٬ وبالتالي فلابد ان تتغير القوانين٬ ولكن المؤسف ان القانون يفرضه الاقوی٬ يفرضه الغالب سواء كان غازيا غاصبا٬ او طبقة مسيطرة٬ او حاكما غاشما ظالما٬ ولهذا فان الناس تكره القوانين٬ وتحاول ابدا ان تخرج عليها٬ أي ان تثور علی عبوديتها تتحدی انهزامها امام قوانين القسر والقوة فكان لابد من خلق قوة لفرض القوانين٬ لابد من شرطة٬ وامن٬ ومباحث وجيش.. لابد من زنزانة ومشنقة.
لابد من دق الرؤوس لتثبت في عظامها مسامير القانون..
لابد ايضا من واعظ وصحيفة وتليفزيون..
لابد من رفع شعارات٬ القانون والنظام..
لابد من مسميات طنانة علی وزن "قانون الوحدة الوطنية" "قانون السلام الاجتماعي"٬ "قانون العيب"٬ "محكمة القيم" وكلما اسرفنا في اطلاق القوانين٬ كلما احتجنا لقوة اكبر كي تنفذها٬ لابد من عسكري وراء كل مواطن٬ ورقيب وراء كل عسكري وزنزانة لكل مولود٬ وقبر لكل مفكر.. ولاهرب من ملاحقات القانون إلا بالاحلام ٬ حيث نطير بلا اجنحة ولا خضوع لقوانين نيوتن٬ وحيث نتعری كما ولدتنا امهاتنا٬ دون رقابة بوليس الاداب.. الحلم راحة من القوانين٬ راحة من القضبان.. المصيبة ان احلامي فيها زنازين وسلاسل٬ مزحومة بكوابيس العيب.